العارف بالله الشيخ المربى الحق




بقلم محمد ابو الفضل كاتب ومؤرخ صوفي 


 كان ظهور التصوف إبان القرن الثالث هجري كسلوك يختص به فئة معينة من الزهاد الصالحين لدعوة الناس إلى الإخلاص التام في العبادة وترك التعلق بالأغيار وبالمظاهر الفتانـة و الأنغماس في تحصيل متاع الدنيا الفـانية وزينتها الزائلة الباليه ثم بعد ذلك تطور وبرز التصوف في المجتمعات الإسلامية بقوة كتوجه ديني له مرجعيته الدينية بحيث شكـل وسيلة فعالة في الأخذ بيد الناس إلى الطريق القويم والنـهج السليم الصالح الذي يقوم على الإخلاص في عبودية الله الواحد الأحد بعدما تهافت المسلمون كغيرهم من الأمم على الدنيا بعد الأزدهار الأقتصادي والترف الحضاري الذي نتج عبر الفتوحات الأسلامية.. علاوة على ذلك ظهور التيارات الفكرية والدينية والسياسية التى تأثرت بالفلسفة اليونانية والثقافات الهندية والفارسية عجلت بالأنشقاق إلى فــرق دينية تتقاتل في ساحات الوغى و مدارس كلامية تتناظر في المساجد في أمور الدين والعقيدة والقرآن والسنـة، من هنا ظهرت الفرق الصوفية من أجل سد هذا الفراغ الروحي وإعادة خلق مجتمع مسلم متخلق ومتصوف بعيدا عن الصراعات السياسية تحت الغطاء الديني.

فقد كان للصوفية دور فعال في هداية الناس من الضلال زمن الفتن وأنتشالهم من ملذات الحياة الدنيا فظهر منهم الزهاد والوعاظ والعلماء الأجلاء من أمثال: (جلال الدين السيوطي)..(حسن البصري)..(الإمام النووي).. (ابن حجر العسقلاني).. (أبو القاسم القشيري)..(ابن عطاء الله السكندري)..(الفضيل بن عياض)..(أحمد ابن عجيبة).. (أبو حامد الغزالي)..(أبو القاسم الجنيد)…

ومنه فلا يمكن لنا الحديث عن التصوف دون الحديث عن الشيخ المربى أو العارف بالله الذي يأخذ بيد المريد، ويبصره بالعلل النفسية والأمراض القلبية ويعينه على بترها وأستئصالها وتزكية النفس وتحليتها وتخليصها من مختلف الشوائب. فمهمة الشيخ المربى العارف بالله إذن تجاه المريد تتلخص في شقين اثنيــن جوهريين:

تعريف المريد بنفسه : فالشيخ المربى العارف بالله، بأعتباره خبيرا بأمراض القلب الخفيه يعرف المريد بتلك الأمراض ويحثه دوما على مجاهدتها بكل عزم مع تقديم الوصفة الصحية الروحانية للمريض من أذكـار وأوراد وأدعية وقراءة القرآن ولزوم مجالس الذكر الجماعية والخلوات .. التي تعينه على الشفـاء وتنور قلبه و تأنس روحه وتعده لتلقي الإشراقات الإلهية والفيوضات الربانية والأنوار الرحمانية والأخلاق المسددة التي يستمدها المريد عبر مراقبة شيخه وأحواله وأفعاله وهذه المرحلة تسمى لدى الصوفية بالمجاهدة وتقوم على مراحل من بينها (التخلية) و(التحلية) و(التخـلق) و(التحقق).

تعريفه بالله تعالى : لا يمكن الحديث عن المعرفة الإلهية

التي لابد في أرتقاء سبلها من ترقي المريد في مقامات المجاهدة والتي تختلف من شيخ مربى عارف لأخـر فأول مقام عند حجة الإسلام (أبو حامد الغزالي) الذي أورده في مؤلفه (إحياء علوم الدين) التوبة وبعدها الزهد فالفـقــر..أما عند (سراج الدين الطـوسي) فتبدأ بالتوبة ثم الورع فالزهد فالفقـر..ويعتبر مقام الأحسان ومقام الرضا من أهم المقامات عند الصوفية لأنه أيضا حسب فقهاء العقيدة من شروط الإيمان 

فالأحسان مرتبة عالية من مراتب الدين الأسلامي حيث بين فضلها وترتيبها محمد عليه الصلاة والسلام من حيث درجات كل مرحلة.

فهناك الأسلام وبينه محمد عليه الصلاة والسلام وبين درجته وكيفية أن تكون مسلما.

ثم الأيمان وبين أركانه وفضله ومنزلته.

ثم الأحسان وهو مرتبة عالية تتحقق لمن وصل للأسلام الحقيقي والأيمان الحقيقي فيصل لدرجة عالية أسمها الإحسان، وكان النبي عليه الصلاة والسلام حين سئل عن الإحسان قد أجاب:" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لك تكن تراه فإنه يراك".

فهي منزلة أستعشار معية الله لك بكل حالاتك

أما مقام وهو أن يرضى المرء بالقضاء خيره وشره

فمعرفة الله كما سبق تقتضي في البداية معرفة النفس، قال تعالى:

” وَفِي الأرْض آيَاتٌ للمُوقِنِين وفِي أنفُسِكم أفلا تبصِرُون “

فالنفس الإنسانية سبيل إلى معرفة الله ومن لا يعرف نفسه لا يعرف ربه عز وجل كما قال النبي الكريم والمقصود من معرفة النفس ليس معرفة الأحوال المزاجية والأضطرابات الشعورية والتقلبات النفسية السلبية من غضب وحسد وغل وكذب…، بل معرفة السبل التي يستشفى عن طريقها من كل هذه الأمراض ولذلك كان الجهاد الأكبر هو جهاد النفس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك في حديث رواه البيهقي.

” عُدنـَا مِن الجهاد الأصْغَر إلى الجهَاد الأكبَر” قالــُوا: ومَا الجهَادُ الأكبَرُ؟ قالَ : جهَادُ القـَـلب “

فالجهاد الأكبر الذي هو التربية الروحية والتزكية القلبية والمجاهدة النفسية لمختلف الشوائب الظاهرة و الباطنة، تتم عن طريقة معرفة النفس وكلما ارتقى الإنسان في معرفة نفسه، معرفة نقائصها وأزماتها وبادر إلى علاجها عبر التقرب إلى الله والإخلاص في عبادته، كلما ارتقـى المريد العاشق في مدارج الصفاء ومراتب المعرفة، ولذلك كانت مراتب الصوفية متباينة، فهناك الغوث والقطب والولي والصالح ..لكن السؤال الذي نطرحه في هذا المقام، من هو العارف بالله الحق الذي نحتـاج إليه؟


العارف بالله حسب أستاذنا (أبو علي الدقـاق) من يمتلك المعرفة بالله، التي تحصل بالهيبة من الله، وقال أحد العارفين حين سأل عن صفات العارف بالله فأجاب:

” العارف بالله كلما ازدادت معــرفته ازدادت هيـــبتــه “

وقال ذون النون المصري عن صفات العارف : “معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى، يحتملك ويحلم عنك، تخلقـا بأخلاق الله” وفي هذا المعنى إشارة إلى الحديث النبوي الشريف :

” تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الله، إِنَّ رَبِّي عَلى صِرَاطٍ مُستقيم “

فالعارف هو أكثر الناس تخلقا بأخلاق الله، التي هي الرحمة والعدل واللطف والصفح والإحسان والعطاء والعفو.. وغيرها من أسماء الله الحسنى وصفاته، والحديث لا يراد به التشبه بالله وإنما التشبه ببعض صفاته التي وردت في القرآن الكريم وأخبر بها النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه.

وأما بخصوص رأي سيد الطائفة مقدم القوم (أبُو القاسم الجنيد) فهو يقول بأن العارف لا يكون عارفـا حتى يكون كالأرض يطؤه البر والفـاجر وكالسحاب يظل كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب.

و بخصوص الصوفي (أبا يوسف بن علي) فيقول: “لا يكون العارف عارفـا حقـا حتى لو أعطي مثل ملك سليمان عليه السلام، لم يشغله عن الله طرفة عين.

فالعارف بالله عند أهل التصوف ضروري وبدونه لا يمكن سلوك الطريق وتجاوز عقباته، والحقيقة أننا نحتاج إلى عارف بالله أو بالأحرى إلى عارفين مصلحين أكثر من أي زمان مضى في ظل العولمة العمياء التي جردت الإنسان من إنسانيته ومن أخلاقه وقيمه وصيرت منه ثورا جامحا وراء كل الماديات..

فبالإضافة إلى أننا نحتاج إلى من يلقننا علوم الدين وعلوم التفسير والفقه وقيم الإسلام السمحة، قيم العدل والتسامح والوسطية، نحتاج إلى من يعلمنـا فقه التزكية الروحية والتربية السلوكية، وهؤلاء ليسوا سوى العارفين بالله الذين أفنوا حياتهم في التعبد وأعمارهم في التقرب إلى الله.

غير أن العارف الذي نحتاجه في هذا العصر ليس أي عارف وليس أي شيخ يدعي الحال والكرامة والفراسة والسر الموروث.. فنحن لا حاجة لنا بالحقائــق كما قال (سيدي حمزة بن العباس القادري بودشيش):


” إن العصر الحالي هو عصر إصلاح الخـلائق، وليس إطلاق الحقائـق ” فما قيمة إطلاق الحقائق في مجتمع غير واع جاهل أمي لا يعلم حتى المعلوم من الدين بالضرورة ؟ !


فالعقل الجمعي العامي لا يستسيغ الحقائــق الصوفية ودائما ما يقابلها بالسوفسطائيه وبالهرطقة والزندقة والكفـر والشرك، لكنه في المقابل يستسيغ التصوف في شقه المعتدل الذي لا يناقض الكتاب والسنة، ولا يجعل من الشيخ نسخة لله على الأرض، يعبد ويقدس ويستغاث به من غير الله، فمثل هذه الأمور لا تجوز، ولا يطيقها عقل مسلم واع بأحكام وفقه الشريعة الإسلامية، وبالتالي وجب تبسيط التصوف وتحبيبه إلى الناس، وتنقيته مِن مختلف البدع والشبه والضلالات والشطحات التي لا تجبر أمة أو تـعلي حضارة، بل بالعكس تسيءُ إلى الدين وتجعل منه فلكلورا شعبيا أشبه بفـلكلور (بنـادياني) الديني عند الهنود.

نحتاج إلى عارف مصلح يشحذ عزائم الأمة، ويقوي قلوبها ويزكي أخلاقها ويحثها على طلب العلم والعمل بالكتاب والسنه والابتكـار التقني والاختراع التكنولوجِي عارف يساهم في نهضة الأمة من أجل بنـاء الصرح الحضاري والإشعاعي.. لا إلى عارف يدعي التصوف ويدعي امتلاك السر النبوي والنسب الشريف والفتح الرباني وهمه الوحيد يكمن في حيازة المال والتكسب وجمع الثروة

العارف بالله الذي نحتاج إليه هو عارف غلب حبه لله ولفعل الخير، حبه للدنيا والسياسة والظهور وتجاوز من هو أكثر منه أتباعا و مريدين.


العارف بالله الذي نحتاج إليه هو عارف لا يعلمنا تقديسه والسجود إليه والتبرك بماء وصوءه وشراشف سريره.. بَل هُو عارف يعلمنا ويشد بأيدينا إلى توحيد و تقديس الله الواحد الأحد الفرد الصمد ومعرفته حق معرفته.


العارف بالله الذي نحتاج إليه هو عَارف يعترفُ أنهُ يخطئ ويصيب كما هو الحال عند البشر لا إلى عارف يضفي على نفسِهِ طابع العصمة من الخـطأ.. فلا معصوم إلا رسول الله صل الله عليه وسلم 


العارف الذي نحتاج إليه هو الذي يعلمنا حب الإنسانية والعمل على الطاعة وطلب العلم والمعرفة ويعيننا على الاستقامة وعلى إبداء النصح للمسلمين وعامتهم 

ليست هناك تعليقات