الدكتور طارق الغنام يكتب سر الشخصية المصرية

 


الدكتور طارق الغنام يكتب


سر الشخصية المصرية


على ضفاف النيل، حيث يهمس الماء بأسرار الزمن ، نشأت مصر لتكون أكثر من وطن، فكانت وعداً بالدوام، وشهادة على أن الحضارة، حين تحتضنها الأرض ويغمرها نور الشمس، تثمر حياةً لا تنقطع، وتلد إنساناً يشبه المعجزة صلباً في وجه العواصف، ليناً في تعامله مع قسوة الأيام، عاشقاً لترابه كما يعشق القلب نبضه. فالمصري، منذ فجر التاريخ، هو الابن الشرعي لملحمة الأرض والماء، لا تنال منه المحن، بل تصقله وتزيده صلابة، ولا تكسره النوائب، بل ينهض من الرماد في كل مرة أشد صلابة وأبهى ضياءً، حاملاً في عروقه نبوءة الخلود. وعلى مدار آلاف السنين، لم تكن مصر مجرد أرضٍ تُسكن، بل كانت رسالة حضارية وإنسانية كبرى، تفيض بالحكمة والنور، ومن الطبيعي أن تتشكل شخصية أبنائها بتأثير من هذا التاريخ العميق والجغرافيا الاستثنائية، وقد تنبه كبار المؤرخين والمفكرين إلى تميز الشخصية المصرية وأصالتها.

فقد رسم جمال حمدان، في عمله الخالد "شخصية مصر"، ملامح الإنسان المصري الذي يجمع في تكوينه الدقيق بين المحافظة والحيوية، وبين الطاعة والتحدي، وبين الخيال الخلاق والواقعية الصارمة، مؤكداً أن عبقرية الإنسان المصري لا تنفصل عن عبقرية المكان الذي أنبته، حيث يمنحه النيل الحياة والثبات، وتلقنه الصحراء دروس الكفاح والتحدي. ورأى حمدان أن المصري، بحكم تاريخه الطويل، أصبح خبيراً في التكيف الحكيم مع تقلبات الزمان وأهوال القدر، متمسكاً بترابه، صلباً كصخره، ليناً كطميه.

أما ابن خلدون، فقد أشار قبل حمدان بقرون إلى أن ارتباط المصري بالزراعة غرس في روحه ميلاً فطرياً إلى السكينة والاستقرار والطمأنينة، إذ كانت الأرض بالنسبة له وعداً بالأمان وجسراً نحو الخلود. ولأن حياته تدور حول الزرع والحصاد لا القتال والغزو، فقد عزف بطبيعته عن العصبية القبلية التي عُرفت بها مجتمعات البادية، وآثر الخضوع لنظام مركزي صارم يكفل له الأمن والاستقرار، وينأى به عن صراعات القبائل وتقلبات الفوضى، وهو ما انعكس في بساطة روحه وتدينه الفطري، الذي ظل بعيداً عن الغلو، نابضاً بإيمان عميق بالطبيعة والحياة ..وجاء المقريزي، في خططه الشهيرة، ليكشف بعداً آخر من ملامح الشخصية المصرية، متحدثاً عن قدرة المصري العجيبة على الصبر أمام المصائب الكبرى، وكيف أنه، رغم المجاعات والأوبئة، ظل متمسكاً بإقامة مواسمه الدينية والاجتماعية، متخذاً من الفرح وسيلة مقاومة للحزن، ومؤكداً أصالة معدن شعب لا تنكسر إرادته بسهولة..وفي العصر الحديث، تناول المفكرون المعاصرون الشخصية المصرية من زوايا متعددة؛ فرأى العقاد أن المصري عقلاني بطبعه، يزن الأمور بتؤدة، ولا يندفع وراء العاطفة الهوجاء. أما أنور عبد الملك فقد رصد بذكاء بالغ ذلك الازدواج المدهش الذي يميز الشخصية المصرية الحديثة، حيث تبدو مظاهر التحديث والعصرية على السطح، من ملبس وكلمات وأدوات حديثة، لكنها تخفي في أعماقها جوهراً تقليدياً راسخاً يتشبث بالقيم والتقاليد، فيظهر ازدواج ساحر بين عالمين: عالم يتجمل بقشور الحداثة، وآخر يتجذر في أرض الماضي.وشدد لويس عوض على أن جذور الحضارة الفرعونية لا تزال حاضرة بقوة في السلوك الجمعي للمصريين حتى اليوم، حيث بقي الميل العميق إلى الاحتكام إلى العرف قبل نصوص القانون ..بينما أشار زكي نجيب محمود إلى تلك النزعة العميقة في العقل المصري، التي تميل إلى التآلف بين الأضداد، وتجنّب الاصطدام، باعتبارها حكمة متوارثة عن صراع القرون وتقلبات الده. فيما لفت سيد عويس إلى النزعة الروحانية العميقة التي تسري في تفاصيل الحياة اليومية للمصريين، من الدعاء للأولياء إلى التبرك بالمقامات، كآلية للتكيف مع مصاعب الواقع.

وعلى هذا، تتآلف هذه الرؤى لتؤكد أن الشخصية المصرية تنفرد بمرونة راسخة، وصبر عميق، وواقعية تنبض بالحكمة، وتدين فطري يسري بسلاسة مع إيقاع الحياة، مع ارتباط أبدي بالأرض، مهدها الأول ومرآتها الصادقة. ولعل أعجب ما في هذا الكيان الأصيل، قدرته على أن يصوغ من قلب المأساة بذرة حياة، وأن ينتزع من الأحزان بسمة رجاء، فبقي المصري، رغم قسوة العصور، حاملاً رسالة حضارته الخالدة، ماضياً بها عبر الزمن.

هناك تعليق واحد:



  1. الشخصية المصرية تمتاز بقدرتها العجيبة على التكيّف مع كل العصور والتغيّرات، فهي شخصية تجمع بين الأصالة والمرونة، وبين الجدّ في العمل وخفة الظل في المعيشة. سرها الحقيقي يكمن في عمق حضارتها القديمة التي زرعت فيها روح الصبر والإبداع، وفي قدرتها الدائمة على النهوض من جديد مهما واجهت من أزمات. فالمصري بطبعه ذكي، فطن، يحب الحياة، ويمتلك حسًّا فريدًا يجعله يتعامل مع الشدائد بروح الدعابة والقوة في آنٍ واحد، ولهذا ظلّت الشخصية المصرية مميزة عبر التاريخ، لا تفقد هويتها رغم تغيّر الزمان.
    (حنين بركات شحاته جمعه)



    ردحذف