أغذية الشوارع: الأبعاد الإقتصادية والأخطار الصحية
بقلم د. محمود محمود هويدي لأستاذ المتفرغ – جامعة الفيوم
أدَّت الموارد الاقتصادية والغذائية والصحية المحدودة في البلدان النامية إلى ارتفاع معدل البطالة وانعدام الأمن الوظيفي وانخفاض الدخل. في الوقت نفسه، انخفض الطهي المنزلي بشكل كبير في المجتمعات الحضرية. وأدى هذا وغيره إلى زيادة اهتمام مختلف مجموعات المجتمات بالأطعمة التي تباع في الشوارع نظرًا لسهولة توفرها وانخفاض سعرها ولذة أطعمها وتعدُّد خياراتها. وعلى الرغم من الجوانب الإيجابية لها على الاقتصاد والتنوع الطهوي، فقد ولَّدت شكوكًا جدية بشأن وضعها في مايخص سلامة الغذاء وجودته، وكذلك الممارسات البيئية الآمنة بشكل خاص. ومن الجدير بالذكر أن مستخدمي أغذية الشوارع حول العالم تجاوز 2,5 مليار يوميا من السكان أي قرابة ثلث سكانه.
وبُعدُّ بيع الأطعمة في الشوارع إلى حدٍّ كبير نشاطًا غير رسمي، وخارج نطاق التنظيم والحماية من الحكومات، وهو ممارسة قديمة غير نظامية شائعة في جميع دول العالم، المتقدمة والنامية على حد سواء. ولهذه الممارسة جذور تاريخية قديمة ذات تأثيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية مُعقدة. وتنتشر هذه الممارسة غير النظامية في دول العالم الثالث بشكل أساسي للمساهمة في حل أوجه القصور الاجتماعية والاقتصادية وذلك من خلال توفير وجبات جاهزة للأكل بأسعار في متناول الفئات منخفضة الدخل، فضلاً عن كونها وسيلة لتوفير العديد من فرص العمل، في أسواق ينضب بها الوظائف الرسمية وفرص العمل. ومن الجدير بالذكر أن تلك الأطعمة، التي عادة ما تكون جاهزة للأكل، تحظى بشعبية كبيرة بين سكان المناطق الحضرية في البلدان النامية لأنها عادة ما يُنظر إليها على أنها غير مُكْلفة ومُريحة وجذَّابة بسبب سماتها التذوقية مثل النكهات الفريدة. وحظيت بشعبية كبيرة منذ بدء عصر الثورة الصناعية حبث تغير نمط حياة العديد من المجتمعات البشرية حيث أُجْبِر العديد من سكان المدن والبلدات على تناول وجباتهم اليومية الرئيسية خارج المنزل ولكونها تُعرض بأشكال عديدة تُمكِّن المستهلكين من الاختيار من بينها، اعتمادًا على أذواقهم وتفضيلاتهم، وكذلك قدرتهم على تحمل التكاليف. كما ويُعزى زيادة استهلاكها إلى مساهمتها الكبيرة في التغذية والأمن الغذائي لملايين الممارسين على طول سلسلة الغذاء، فضلاً عن أنه تم تصنيفها بطريقة أو بأخرى، وبشكل مباشر وغير مباشر، أنها تؤثر بشكل كبير على التغذية البشرية والأمن الغذائي. وتشير العديد من الأدبيات إلى أن زيادة استهلاكها تُسهم بشكل كبير في توفير العناصر الغذائية والغذاء لملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم، كما يعتبرها البعض أنها مصدرًا محتملًا للتدعيم بالعديد من المغذيات الدقيقة في محاولة لمنع أمراض نقص التغذية. غير أنه يؤخذ عليها ارتفاع من السكر والملح والدهون المشبعة,
وتُعد احتياجاتها الاستثمارات الرأسمالية المحدودة وبساطة مهارات التشغيل وقلة المرافق المطلوبة للتشغيل عوامل محفذة على انتشارها على نطاق واسع. وفي ذات الوقت، يُسهم الموقع المناسب والدعاية الشفهية المخصصة للترويج أيضًا في نجاح مشروعات الأطعمة التي تُباع في الشوارع. ومن جوانبها السلبية أن الباعة الجائلين يخلقون عقبات واضطرابات لتدفق حركة المرور بسبب أنماط البيع غير المنظمة لديهم. ونظرًا لعدم قدرة الباعة الجائلين على تلبية معايير السلامة والحصول على وضع تجاري قانوني، فإنهم يعانون من المضايقات من قبل وكالات إنفاذ القانون أو أصحاب المتاجر القريبة. وغالبًا ما يُلاحظ أن السلطات المحلية تصادر الأطعمة التي تُباع في الشوارع وتعتقل الباعة فضلا عن فرض غرامات باهظة.
وعلى الجانب الآخر تُعد الأغذية التي تباع في الشوارع مصدرًا لمخاطر مُحتملة على المستهلكين من حيث تدني مستوى الجودة وعدم الإلتزام بضوابط النظافة وسلامة الغذاء، لأنها تُعدُّ في ظل ظروف غير صحية مع تدني أو / انعدام نظافة العاملين والغذاء، وتعد مصدرا يُعرّض المستهلكين في كثير من الأحيان لمخاطر ميكروبيولوجية خاصة تلك المسببة للأمراض المنقولة عن طريق الغذاء، ومخاطر كيميائية منها بقايا المبيدات الحشرية والمعادن الثقيلة وغيرها التي قد تحتوي عليها، ولها تأثيرات صحية ضارة على حياتهم حيث تُسهم في نشر الأمراض المنقولة عن طريق الأغذية، رغم الفوائد الغذائية المُتصَوَّرة للمجتمع، وبالتالي، فإن جودتها تشكل مصدر قلق كبير فيما يتعلق بسلامة الأغذية لتعرض المستهلكين باستمرار لخطر الإصابة بالأمراض المنقولة عن طريق الغذاء. وبالتالي فالحاجة مُلِحَّة لتعزيز ممارسات سلامة الغذاء في إنتاجها واستهلاكها، وخاصة في البلدان النامية حيث تكون مستويات معايير النظافة مشكوك فيها، وذلك لضمان حماية صحة المستهلكين، وفي ذات الوقت ضمان توفير الأطعمة المغذية والصحية وبأسعار معقولة يمكن للجميع الوصول إليها بسهولة. ويسهم في انتشار تلك المخاطر طبيعتها غير الرسمية التي ينتج عنها إهمالها من قبل السلطات التنظيمية الرسمية مما يؤدي إلى ممارسات غير صحية. وترتبط البنية التحتية الرديئة، ونقص الصرف الصحي، وسوء النظافة الشخصية بزيادة المخاطر الميكروبية، والتلوث البيئي، والتلوث الكيميائي، ويسهم كل ذلك في ارتفاع خطر الإصابة بالأمراض المنقولة بالغذاء والمخاطر الصحية ويعزز ذلك على أرض الواقع افتقار معرفة بائعي الأطعمة في الشوارع بأسباب الأمراض المنقولة عن طريق الأغذية. ولمنع تلوث الأطعمة في الشوارع، يحتاج الباعة إلى تدريب على النظافة والوصول إلى المرافق المعتمدة والمدققة التي قد تضمن سلامة الغذاء. يجب على الحكومات اتخاذ خطوات فعالة من خلال التشريع وإجراء برامج تدريب على سلامة الغذاء. ويعد التعاون النشط بين الهيئات التنظيمية والمنظمات غير الحكومية أمرًا بالغ الأهمية لدعم باعة الطعام الجائلين في إنفاذ سياسات الصحة العامة بشكل صحيح.
تباع أطعمة الشوارع عادةً من خلال عربات اليد أو الأكشاك أو المحلات التجارية، وهي ثلاث فئات؛ الأطعمة التي تُحضَّر في مصانع صغيرة وتباع بمعرفة باعة جائلين؛ والأطعمة التي تُحضَّر في منازل الباعة الجائلين ويعرضوها للبيع للجمهور؛ والأطعمة التي تُحضَّر حصريا وتُباع في الشوارع.
ومن خصائص بيع الأطعمة في الشوارع، مثل غيرها من مؤسسات القطاع غير الرسمي، أن طبيعة عملها محدودة/صغيرة، وتسنخدم أساليب معالجة الأغذية التقليدية، وتكاليف بدء التشغيل والأستثمارات اللازمة منخفضة بما يسمح بسهولة الدخول إلى السوق. ويشارك فقراء المناطق الحضرية بشكل رئيسي في هذا القطاع، وقد تم النظر إلى هذا على أنه استجابة لعدم وجود فرص عمل رسمية للكثير منهم. وبسبب طبيعته، لا يتم احتساب قطاع الأطعمة في الشوارع غير الرسمي من قبل وكالات جمع البيانات الرسمية في معظم البلدان النامية؛ وبالتالي فإن الإحصاءات الرسمية عن تجارة الأطعمة في الشوارع في معظم هذه البلدان غالبًا ما تكون غير موجودة. ولهذا السبب، فإن مساهمات بيع الأطعمة في الشوارع في اقتصاد البلدان النامية لا تحظى بالتقدير الكافي نظرًا لوجود إحصاءات رسمية موثوقة قليلة أو معدومة عن حجم التجارة والعمالة وتوليد الدخل للمؤسسات. ومع ذلك، يُعتقد أن تجارة الأطعمة في الشوارع هي مشروع بملايين الدولارات ينطوي على أحجام كبيرة من الأعمال التجارية التي توفر مصدرًا هائلاً للعمالة والدخل لملايين الأشخاص في البلدان النامية. على سبيل المثال، تم الإبلاغ عن حوالي 100000 بائع للأطعمة في الشوارع في ماليزيا بحجم مبيعات سنوي إجمالي يتجاوز 2 مليار دولار أمريكي. ورغم أن قطاع أغذية الشوراع قطاعا غير نظامي وغير رسمي وينخرط فيه من لايستوعبهم سوق العمل الرسمي، فالعمل به يحقق دخلا ملموسا لمثل هذه الفئات ويطلق عليه أحيانا قطاع اقتصاد البازار.
وأفادت السياسة الوطنية للباعة الجائلين في المناطق الحضرية في الهند أن باعة الأطعمة في الشوارع في البلاد يشكلون ما يقرب من 2٪ من السكان في المدن والبلدات، ومع ذلك فحجم التجارة الرسمي المعني مفقود إلى حد كبير. وفي زامبيا، بلغ حجم مبيعات الأطعمة في الشوارع في أوائل القرن الحالي نحو 100 مليون دولار أميركي، ووظفت نحو 16 ألف شخص، معظمهم من النساء ذوات التعليم المحدود، واللاتي وفر لهن هذا القطاع وسيلة لكسب لقمة العيش.
وكما أن البيانات الرسمية الفعلية عن تجارة الأطعمة في الشوارع محدودة، فإن استهلاكها أيضاً غير متوافر بدقة إلى حد كبير، وأظهرت عددا من الدراسات التي أُجريت في بلدان مختلفة أن تجارتها كبيرة وتشكل قطاعاً معقداً. ومع ضآلة البيانات المتوفرة عن أنماط استهلاك أطعمة الشوارع ضئيلة، فالأطفال والطلاب وموظفي المكاتب من الفئات الأكثر استخداما، ففي السنغال، كان 28% من جميع مستهلكي الأطعمة في الشوارع من الأطفال والمراهقين. كما وجدت دراسة أجريت في مالي أن الأطفال كانوا مستهلكين مهمين للأطعمة في الشوارع وأنهم مارسوا قدراً كبيراً من الاستقلال في شرائها. ووجدت دراسة عن استهلاك أطفال المدارس في هايتي للأطعمة في الشوارع أن معظمهم يأكلونها كل يوم وأن الأطعمة في الشوارع تزود الأطفال بما يقدر بنحو 400 سعر حراري في اليوم. تشير الدراسات الحديثة إلى أن 50-70% من دخل الأسرة بين الفئات ذات الدخل المنخفض في العديد من البلدان النامية يتم إنفاقه على الأطعمة التي تباع في الشوارع.
ويلعب بيع الأطعمة في الشوارع دوراً اجتماعياً واقتصادياً حيوياً، فقد كان هناك طلب متزايد على نفس الشيء في البلدان ذات الدخل المنخفض. وقد ورد أن إمدادات الغذاء الحضرية في البلدان النامية مدفوعة بشكل أساسي بهذا القطاع غير الرسمي غير المنظم إلى حد كبير والذي يشكل 74٪ من إجمالي إمدادات الغذاء. وفي أفريقيا، ورد أن بيع الأطعمة في الشوارع مكّن 80٪ من سكان المناطق الحضرية من إطعام أنفسهم بسهولة وبأسعار منخفضة، وهو ما يمثل حوالي 40٪ من الإنفاق على الغذاء في المناطق الحضرية في التسعينيات. وقد ورد أن هذا القطاع يوظف في المتوسط 37.8٪ من القوى العاملة، ويساهم بنحو 38٪ من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا. وكشكل من أشكال المشاريع التجارية، كانت النساء تهيمن بشكل أساسي على بيع الأطعمة في الشوارع. على سبيل المثال، وجد أن 53 و 75٪ من بائعي الأطعمة في الشوارع في السنغال وبوركينا فاسو على التوالي من النساء.
إن ما يقرب من نصف إجمالي ميزانية الغذاء المنزلية يتم إنفاقها على الأطعمة التي تباع في الشوارع في المدن في تايلاند ونيجيريا، وأكثر من 25% في الفلبين وإندونيسيا. كما أفادت أحد الأدبيات بأن عدداً كبيراً من الناس في بعض البلدان النامية يعتمدون على هذا النوع من الأعمال لكسب عيشهم. على سبيل المثال، أشارت دراسة إلى أن 26% و15% من القوة العاملة في المدن الإندونيسية والفلبينية على التوالي تعمل بشكل مباشر في بيع الأطعمة في الشوارع. ووفقاً لمسح أجرته منظمة الأغذية والزراعة في مطلع القرن الحالي، فإن حوالي 2.5 مليون شخص، أي ما يقرب من 0.03% من سكان العالم، يستهلكون الطعام في الشوارع.
وقد تبين أن الأطفال والمراهقين يمثلون شريحة مهمة من مستهلكي الأطعمة التي تباع في الشوارع. فقد وجدت دراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة أن 67% من أطفال المدارس الابتدائية في دار السلام في تنزانيا يشترون الأطعمة التي تباع في الشوارع يوميًا، في حين يشتري جميع أطفال المدارس الابتدائية تقريبًا (96%) في نيجيريا وجبات الإفطار من باعة الأطعمة التي تباع في الشوارع، ويشتري 76% منهم وجبتين من الأطعمة التي تباع في الشوارع يوميًا44. وفي تونس، استخدم 75% من أصل 421 طفلًا في المدارس تمت مقابلتهم أكثر من 75% من أموالهم لشراء الأطعمة التي تباع في الشوارع.
ورغم أن قطاع أطعمة الشوارع نال قدرا ليس قليلا من الدراسات والبحوث في العديد من دول العالم، فنصيبه من الدراسة والبحث لايتناسب مع أهميته. وأحسب أن الحاجة ملحة لتسليط الضوء على هذا القطاع بكل أبعاده.
وتيسيرا على القارئ غير المتخصص يمكن التأكيد على الحاجة الضرورية لوضع التشريعات الخاصة بأغذية الشوارع والإلتزام بتنفيذها وتبني هذا القطاع الحيوي وتطويره وليس تحديه، واتخاذ كل مايلزم لحصر كافة أنشطته وتوفير البيانات وإتاحتها للباحثين، وتشجيع الإستثمار الإنشائي والبحثي للنهوض به، وخلق بيئة صحية للتعاون بين القطاعين الحكومي والأهلي، حتى يصبح هذا القطاع فاعلا في المجتمع تحت مظلة آمنة، ولضمان: تحسين ممارسات سلسلة الإنتاح، تحسين جودة المنتجات وسلامتها وأمنها، تعزيز ثقة المستهلك مما يؤدي إلى زيادة المبيعات، زيادة القدرة على الوصول إلى السوق وزيادة إمكانية الربح، بيئة عمل أكثر أمانًا، الحصول على غذاء أكثر أمنا وتغذية، صحة أفضل وحالة غذائية أفضل لمختلف المستهلكين. عاشت مصر آمنة مستقرة ينهم أهلها من فيض خيراتها، عاشت مصر بلا فقير وبلا عاطل.

ليست هناك تعليقات