الهوية واللغة ..إلي أين؟

 


الدكتور طارق الغنام يكتب 

 

تنشأ الهوية نتيجة تناغم عدد من الخصائص، والسمات الاجتماعيّة، والمعيشيّة، والنفسيّة، والتاريخيّة في مجتمع ما، وهذه السمات إنما تعبّر عن كيانٍ ينصهر فيه أفرادٌ منسجمون ومتشابهون بتأثيرٍ من هذه الميّزات والخصائص التي تجمعهم ، ويتم التعبير عن هذه الهوية باللغة، فاللغة والهوية كلاهما يرتبط بعضهما ببعض ارتباطاً وثيقاً ، وكلاهما يؤثر تأثيراً بالغاً علي السلوك قوة وضعفاً ، فإذا قويت الهوية قويت اللغة وإذا قويت اللغة قويت الهوية .

فإذا كان الوجود قد سبق الهوية ، فإن كلّ فردٍ يستمد إحساسه في الوجود بالانتماء من خلال الهويّة التي تحمي المرء من الانقسام ،ولاشك أن الهوية تتأثر بحالة اللغة باعتبارها أداة للتخاطب ، لذا فإنه من غير المفهوم أن تعتز الكثير من الدول بلغتهم الأصلية كالفرنسيين الذين يعتزون بلغتهم  القومية إلى درجة التعصب، في حين نجد أن المجتمع العربي ينتشر به العديد من اللغات انتشاراً غير مبرر، وخير دليل علي ذلك انتشار الفرنكوفونية في بعض الدول العربية كسوريا و لبنان والمغرب ، علي الرغم من زوال الاحتلال الذي كان يناضل من أجل نشر لغته لتكون مدخلاً لنشر ثقافته علي حساب الثقافة العربية ، وهذا مؤشر ينطوي علي دلالات كثيرة ،خاصة عندما نعرف،  أنه ، عادة ما يتم نقل اللغة من الحضارة القوية إلي الحضارة الضعيفة.

لذا فإن الدستور لم يغفل هذه المسألة واتخذ من اللغة العربية لغة رسمية للبلاد ولم يكن ذلك فقط لأهمية اللغة من الناحية  الثقافية والتواصلية أو لكونها وسيلة لنقل الأفكار ، بل لعلاقتها وتأثريها الوثيق بالهوية ، لذلك كان لابد أن ينشأ وضع يحميها ويكفل لها الاستعمال في كافة مؤسسات الدولة ونواحي الحياة العامة ، وكنا تأمل منذ زوال الاحتلال بمصر والدول العربية أن يتم النهوض باللغة العربية بما يضمن لها أن تقوم بمختلف وظائف التعليم ونشر المعرفة والتواصل والإعلام....إلخ، غير أن الواقع خالف ذلك ، وما فتئت وظائف اللغة العربية في التراجع والتقلص في كل مناحي الحياة والتعليم ، حتى أصبحت مهددة بالزوال ويعزز ذلك بصورة كبيرة اشترط اللغات الأجنبية كمسوغ للتعين لدى العديد من الشركات والمؤسسات الخاصة ،فذلك إنما يمثل انفصاماً للهوية والكيان الثقافي والطبقي العربي .

لقد أصبح  الاستثمار في تعليم اللغات غير العربية هو السائد علي حساب اللغة العربية وعلي الرغم من ذلك لم تحل مشكلة التعليم ،ولكن أصبحنا نتجرع نتيجة هذا الواقع ، بمفاهيم دخيلة ، كتلك التي تعتبر اللغة العربية هي لغة الطبقة الكادحة أو المتخلفة ، فتم التوسع في تعليم اللغات الأجنبية بصورة مبالغ فيها ،و التي أصبحت سبباً للارتقاء في السلم الاجتماعي وطلب الوظائف، فأضحى هجر اللغة العربية سلوكاً شائعاً .

إلا أن الواقع الذي يجب أن ننتبه إليه أن اللسان العربي مازال يجمع شعوب الدول العربية وقيمته تتزايد بالنظر إلي قيمته التواصلية الجامعة ، فاللسان العربي بتنوعاته هو لسان قطبي مرشح لأن يحتل المرتبة الخامسة علي مستوى العالم من حيث الاستعمال والأهمية ..لذا فمن المهم أن نستغل هذه الفرصة ، وأن نجعلها سبباً لإنشاء كيان اقتصادي موحد بين الدول العربية ، فالعديد من الدول استخدمت اللغة سبباً لإقامة تكتلات اقتصادية وسياسية وثقافية كالكومنولث ، لذا فاللغة العربية يمكن أن تكون – بقليل من الدعم -وسيلة للتواصل التقني بين اقتصاديات الدول العربية ، بحيث تكون مدخلاً أساسياً لتقنيات الاتصال والمعلومات في كافة المجالات والأنشطة  التجارية العربية ووسيلة للتعاملات عبر التجارة الإلكترونية .

هناك 3 تعليقات:

  1. Basmla Ehab Ahmed Gharib10 أكتوبر 2025 في 1:31 م

    مقال رائع يسلّط الضوء على العلاقة العميقة بين اللغة والهوية، ويذكّرنا بأهمية الحفاظ على لغتنا العربية باعتبارها جزءًا أصيلًا من كياننا وثقافتنا. فاللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي وعاء فكرٍ وحضارة، وبقاؤها قوياً يعني بقاء هويتنا متجذّرة في وجداننا.

    ردحذف
  2. ما رأيكم في تأثير تراجع استخدام اللغة العربية في حياتنا اليومية، سواء في التعليم أو الإعلام أو حتى في التواصل بين الأجيال؟ وهل يمكن أن يؤدي هذا التراجع بمرور الوقت إلى فقدان جزء من هويتنا وثقافتنا العربية الأصيلة؟
    ( محمد ياسر محمد احمد سالم)

    ردحذف
  3. هل تعتقدون أن اللغة العربية ما زالت تحتفظ بقوتها وجمالها في زمن التكنولوجيا واللغات الأجنبية؟
    وهل يمكننا بالفعل أن نعيد لها مكانتها كلغة علم وثقافة وإبداع، فتكون الجسر الذي نعبّر به عن أفكارنا وننقل به حضارتنا إلى العالم من جديد؟
    ( محمد عطيه محمد احمد داؤد)

    ردحذف