التغيرات المناخية وسلامة الأغذية: التحديات والإنعكاسات
بقلم . د.محمود محمود هويدي
الأستاذ المتفرغ – جامعة الفيوم
يُعدُّ تغيُّر المناخ البشري المنشأ أحد أكبر التغيرات البيئية والتحديات التي يواجهها العالم على مدار عقود واليوم وأدت الأنشطة البشرية على مدى القرنين الأخيرين إلى زيادات هائلة في انبعاثات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، بما في ذلك ثاني أكسيد الكربون حيث زادت تركيزات ثاني أكسيد الكربون بنسبة تزيد عن 30%، من 280 جزء في المليون في عصر ما قبل الثورة الصناعية إلى مستويات اليوم البالغة 387 جزء في المليون في الوقت الحالي.
ليس هذا فحسب بل زادت معدلات الغازات الدفيئة الأخرى زيادات كبيرة مثل الميثان وأكسيد النيتروز والإيروسلات ومنها مركبات الكلوروفلوكاربون. وتلعب هذه الجزيئات دورًا رئيسيًا في ظاهرة الاحتباس الحراري عن طريق امتصاص الأشعة تحت الحمراء وحبس الحرارة بالقرب من سطح الأرض. وقد أدى هذا بالفعل وسيستمر إلى تغيير مناخ الكوكب بعدة طرق يمكن أن تؤثر في نهاية المطاف على صحة الإنسان وخفض كميات الأغذية وجودتها وسلامتها، وتدهور الأراضي، وانخفاض التنوع البيولوجي، ووظيفة النظام البيئي.
وتغيُّر المناخ وتقلبُّه من بين العوامل المتعددة التي تُثير التغيرات في الطبيعة ومايترتب عليها من حدوث مخاطر ملموسة على سلامة الأغذية، والتي قد تنشأ في أيًّ من مراحل السلسلة الغذائية، من الإنتاج الأولي إلى الاستهلاك، ويُشكِّلُ ذلك خطرًا كبيرًا على الصحة العامة، ويكون التأثير مباشرًا وغير مباشر. وتوضح الأدبيات وجود العديد من المسارات التي تؤثر من خلالها االعوامل المرتبطة بالمناخ على سلامة الأغذية بما في ذلك: التغيرات في درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار، وزيادة وتيرة وشدة الأحداث الجوية، وارتفاع درجة حرارة المُحيطات وزيادة نسبة الحموضة بها. ويؤثر ذلك على أنواع البكتيريا الموجودة وقدرتها على التكيف والمقاومة، وحالات التسمم، واستهلاك المضادرا الحيوية؛ وكذلك أنواع الفيروسات والطفيليات والفطريات وأنماط الأمراض المنقولة عن طريق الأغذية. ولمثل هذه التغييرات تأثيرات على البيئة الميكروبية ونمو الكائنات الحية الدقيقة، وعلى الأمراض المنقولة بالغذاء والأمراض حيوانية المنشأ.
وأصبح تغير المناخ الناتج عن النشاط البشري في جميع أنحاء العالم حقيقة واقعة، ويؤثر على بيولوجيا وبيئة العديد من الكائنات الحية، وتؤئر علي التوازن الميكروبي داخل الأمعاء الغليظة لصالح الميكروبات الممرضة والضارة لأن الميكروبات المفيدة حساسة جدا وتتأثر سلبيا ويقل درجة ارتباطها والتصاقها بالأمعاء ويزداد عدد الميكروبات الضارة ويقل عدد الميكروبات المفيدة مما يؤثر سلبا علي صحة الانسان، فضلاً عن العديد تعقُّد مسارات المواد الكيميائية.
ومع ذلك لا يُعرف سوى القليل عن عواقب تغير المناخ على النظام الغذائي وسلامة الأغذية، وخاصة المأكولات البحرية، التي تشمل جميع المراحل من "المزرعة إلى المائدة" وآثارها على صحة الإنسان. ومن المتوقع أن تؤدي المخاطر الكيميائية والبيولوجية الناتجة عن تغير المناخ إلى إضعاف سلامة المأكولات البحرية في المستقبل؛ وعلى وجه الخصوص، المعادن الثقيلة وبقايا المواد الكيميائية العضوية وسموم الطحالب ومسببات الأمراض. وتستجيب الأنواع المختلفة من المأكولات البحرية بشكل مختلف لمثل هذه الضغوط، ويؤدي ذلك إلى العديد من التحديات لسلطات الصحة العامة فيما يخص ضمان سلامتها والحفاظ على ثقة المستهلكين في تناولها في عالم أكثر دفئا.
ويُعتقد أن تقلب المناخ وتغيره يهددان سلامة سلسلة الإمدادات الغذائية من خلال مسارات مختلفة، منها تفاقم الأمراض المنقولة بالغذاء من خلال التأثير على استمرار حدوثها، وفي بعض الحالات، سُمِّية مجموعات معينة من الكائنات الحية الدقيقة المسببة للأمراض.
ويترتب على التغيرات المناخية نقص المياه الصالحة للشرب واللازمة لري المنتجات الزراعية، وزيادة استخدام المُبيدات الحشرية بسبب مُقاومة الآفات، وزيادة صعوبة تحقيق سلسلة تبريد جيدة التحكُّم مما يؤدي إلى إساءة استخدام درجات الحرارة، أو حدوث فيضانات مفاجئة تسبب جريان الملوثات الكيميائية في مسارات المياه الطبيعية. وتُسْهم هذه العوامل مجتمعة في عدوى الأمراض المنقولة بالغذاء، والتسمم، ومقاومة مضادات الميكروبات، والتراكم الحيوي طويل المدى للمواد الكيميائية والمعادن الثقيلة في جسم الإنسان. علاوة على ذلك، يمكن أن تؤدي التقلبات المناخية الشديدة إلى أحداث مُناخية مُتطرفة وكوارث طبيعية، مما يعوق سلامة الأغذية بشكل مباشر أو غير مباشر.
وتؤدي الزيادات في درجات الحرارة والرطوبة الناتجة عن التغيرات المناخية إلى نمو الكائنات الحية الدقيقة التي يحتمل أن تُنْتج السموم ويسبب هذا بدوره تفشي الأمراض المنقولة بالغذاء. وقد أدى تدهور نوعية المياه والتربة بسبب التغيرات المناخية إلى أكثر من 600 مليون حالة من الأمراض المنقولة بالمياه والأمراض المعدية. ويرتبط زيادة امتصاص الأسماك للمعادن الثقيلة باحترار المحيطات، ونقص الأكسيجين، وزيادة الملوحة. ويشكل التراكم الحيوي للمعادن الثقيلة في مكونات السلسلة الغذائية تهديدًا أكبر لصحة الإنسان.
وللتغيرات المناخية تأثيرات متعددة على سلامة الأغذية، حيث يؤدي ارتفاع درجة الحرارة وزيادة هطول الأمطار إلى ظهور واستمرارية وضراوة العديد من الكائنات الحية الدقيقة المرتبطة بالأمراض المنقولة بالغذاء، بالإضافة إلى ذلك، تُعزز هذه التغيرات نمو الطفيليات النباتية والأعشاب الضارة، ويؤدي ذلك بدوره إلى زيادة استخدام المركبات الخطرة على شكل مبيدات حشرية، مما يعرض سلامة الأغذية للخطر.
ينتج عن التغيرات المناخية تهديدات غير مباشرة لسلامة الأغذية مرتبطة بسلوك المستهلكين وممارساتهم في تداول الأغذية وخاصة تخزينها وتداولها في المواسم الحارة، مما قد يزيد من خطر تعرض الإنسان لمسببات الأمراض المنقولة بها. وتوضح الأدبيات وجود علاقة بين الضغوطات البيئية وزيادة انتهاكات سلامة الأغذية بسبب انخفاض عمليات التفتيش على سلامة الأغذية. ومن الواضح الجلي أن تؤثر ندرة المياه على انتقال مسببات الأمراض المنقولة بالغذاء مثل الليستريا مونوسيتوجينز من خلال تعرض الظروف الصحية في مرافق تجهيز الأغذية للخطر، وتدني نظافة أيدي متداولي الأغذية، والصرف الصحي وتعقيم المعدات. كما ويؤدي نقص المياه لدفع المزارعين على ري محاصيلهم بالمياه السطحية التي تحتوي على مسببات الأمراض والتي تُسهم في انتشار الأمراض المنقولة بالغذاء. ويؤثر ارتفاع درجات الحرارة المحيطة على سلسلة تبريد الأغذية بأكملها، بدءًا من التبريد الأولي أو تجميد الطعام وحتى نقله وتخزينه وعرضه للبيع بالتجزئة. وستؤدي زيادة درجات الحرارة المحيطة وارتفاع درجات حرارة تخزين المواد الغذائية إلى زيادة احتمالية استهلاك البشر لأغذية غير آمنة.
ويُزيد تغير المناخ وطول سلاسل الغذاء من احتمال حدوث مشكلات التلوث الناجمة عن مسببات الأمراض والطفيليات المنقولة بالغذاء، لذلك من الضروري رفع مستوى الوعي بهذا الأمر من أجل التخفيف من مخاطر الصحة العامة. وعندما تتعاون السلطات الصحية الوطنية والإقليمية في مختلف القطاعات، ومجتمعات البحث الطبي والعلمي، وصناعة الأغذية الزراعية، يصبح من الممكن وضع لوائح ومبادئ توجيهية أكثر فعالية لتحسين الصحة العامة.
وقد أدى تغيُّر المناخ إلى فقدان الإنتاجية الزراعية والبحرية، وفقدان التنوع البيولوجي، وتعطل الإمدادات الغذائية، وتقلب أسعارها، مما أثَّر على كمية ونوعية الأغذية المستهلكة، وبالتالي تعريض الأمن الغذائي والتغذوي للخطر. وفي عام 2020، واجه ما بين 720 و811 مليون شخص الجوع، معظمهم في أفريقيا وآسيا. وعلى الرغم من أن تأثيرات تغير المناخ على توافر وإنتاج الغذاء نالت قدرا كبيرا من الدراسات والبحوث على نطاق واسع، إلا أن التأثيرات على سلامة الأغذية لم تحظ إلا بالقليل من الاهتمام. وللوقاية من الأمراض المنقولة بالغذاء، تصف الطريقة العلمية لنظام سلامة الأغذية بضرورة اتباع الممارسات الجيدة إنتاجا وتخزينا وإعدادا وتشغيلا.
وتهدد قضايا تلوث الغذاء الناتج عن التغيرات المناخية ومايترتب علي ذلك من نتائج أهداف التنمية المستدامة، ولا سيما الهدف 2 (القضاء على الجوع)، والهدف 3 (الصحة الجيدة والرفاهية)، والهدف 6 (المياه النظيفة والصرف الصحي)، والهدف 8 (العمل اللائق والنمو الاقتصادي). ) والهدف 10 من أهداف التنمية المستدامة (الحد من عدم المساواة)، والهدف 12 (الاستهلاك والإنتاج المسؤول)، والهدف 13 (الحد من عدم المساواة) (تغير المناخ). من الضروري اتخاذ تدابير في الوقت المناسب للتكيف مع آثار تغير المناخ والتخفيف من آثارها لتعزيز صحة الإنسان والكوكب.
وخلاصة القول أن التأثيرات المحتملة للتغيرات المتوقعة على تلوث الأغذية وسلامتها في مراحل مختلفة من السلسلة الغذائية تستوجب تحديد استراتيجيات التكيف وأولويات البحث لمعالجة تأثيراتها على سلامة الأغذية وجودتها. وأن الحاجة باتت مُلحِّة إلى التعاون بين القطاعات الوطنية والتعاون الدولي لفهم الوضع المتغير لسلامة الأغذية وجودتها بشكل أفضل ولوضع وتنفيذ استراتيجيات التكيف لمعالجة المخاطر الناشئة المرتبطة بتغيرات المناخ. ومن الضروري وضع استراتيجيات بحثية موجهة لدراسة تأثيرات وانعكاسات مخاطر التغيرات البيئية على الصحة العامة للإنسان والأمراض المنقولة عن طريق الغذاء.
ليست هناك تعليقات